رحلة صيف (على القد) كانت تلك هى أمنية الأسرة المصرية فى مثل هذه الأيام، مهما كان مستواها الاقتصادى محدودا، العديد من الشركات كانت تساعد موظفيها على التعاطى سنويا مع (يود) البحر، وهكذا حتى الماضى القريب كانت الأسرة متوسطة الحال أو دون المتوسط متاحا لها أن تحصل على نصيبها أيضا من هواء البحر، كانت أغلب الشواطئ مفتوحة مجانا، فى تلك السنوات أقصد الستينيات، كان ارتداء المايوه، يعد فى عرف المجتمع طقسا متعارفا عليه لا يثير تساؤل أحد، كان ينظر إليه بأنه (الشيء لزوم الشىء) والمايوه لزوم السباحة، ولم تكن هناك أى تساؤلات وقتها، فى مثل هذه الأمور الشخصية، المجتمع كان يتعامل ببساطة مع هامش الحرية الاجتماعية، مثلا (المينى جيب)، عادى جدا أن تجد فتاة ترتديه فى وسيلة مواصلات عامة، لم يفكر أحد وقتها فى (البوركينى) وهى الكلمة التى جمعت بين (البرقع) و(البكينى)، فصار لباسا متعارفا عليه فى العالم، وهناك من يبيحه أو يصادره.
إجازة الصيف، أصبحت غير متاحة للجميع، تتعدد الأسباب التى تحول دون الاستمتاع بتلك المتعة، وهكذا حققت الشاشة أيضا للإنسان تلك الأحلام بقروش بسيطة فى الخمسينيات والستينيات، تبدو رحلة قليلة التكلفة، وكما يقول الفقهاء (ما لا يدرك كله لا يترك كله)، فإذا لم تستطع أن تعيش واقعيا على البحر، فلا بأس من شريط سينمائى يحقق لك شيئا من المتعة الافتراضية، أغلب أفلامنا القديمة اختارت الشاطئ الأشهر الإسكندرية، مع الزمن بدأنا نرى أيضا فى الأفلام شواطئ أخرى مثل مرسى علم والساحل الشمالى بجزأيه (الطيب الشرير) وطابا والغردقة وغيرهم، ولا تزال (العلمين) هى الحلم.
الأفلام فى الماضى لم تكن تحمل أدنى مشكلة عندما ترتدى البطلة المايوه، كل النجمات تقريبا ارتدين مايوه قبل أن يصبح شعار اللاءات الثلاثة مرفوعا بين أغلب النجمات، لا (للمايوه والجنس والعرى)، بل صار بعضهن ينزلن البحر بالملابس الكاملة بعد أن باتت مثل هذه المشاهد مستهجنة، هناك قطاع من المجتمع قرر أن يلعب دور الحسيب والرقيب، مما أثر قطعا بالسلب على الأعمال الفنية، وأصبحت أغلب النجمات منعا للقيل والقال ولإراحة الدماغ، وعلى غير قناعة فهن يرفضن المايوه على الشاشة، حتى لو كانت الفنانة فى حياتها الشخصية ترتدى المايوه، فهى ترفضه على الشاشة، استجابة للمجتمع، هناك أكثر من نجمة أعلنت الاستتابة بأثر رجعى، مؤكدة ندمها عن ارتداء المايوه فى بداية المشوار، وتضيف لو عاد بها الزمن، مؤكد لن تفعلها.
ربما تجد مثلا فى آخر أفلام المخرج الكبير محمد خان (قبل زحمة الصيف) ٢٠١٦ استثناء، الفيلم بطولة هنا شيحة، وبالطبع المايوه شكل ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها ذهب المخرج للساحل الشمالى، بأبطاله إلى هناك قبل زحمة الصيف ومن هنا جاء عنوان الفيلم، وقبل أن يوقع منتج الفيلم مع هنا شيحة كان قد واجه اعتراض أكثر من نجمة، خوفا من المايوه، هنا وافقت على الشرط، قبلها عام ٢٠٠٤ قدمت كاملة أبوذكرى أول أفلامها الروائية (سنة أولى نصب) وشارك فيه داليا البحيرى ونور وارتديتا المايوه.
أشهر الأفلام التى رأينا فيها البحر بطلا، ومن العنوان (شاطئ الغرام) التصوير فى مرسى مطروح المخرج الكبير بركات والبطولة ليلى مراد وحسين صدقى، وقررت المحافظة قبل سنوات قلائل إقامة تمثال برونزى لليلى مراد والناس لا تزال تطلق على الصخرة اسم ليلى مراد (يا ساكنى مطروح/ جنية فى بحركم/الناس تيجى وتروح/ وأنا عاشقة حيكم)، كلمات صالح جودت وتلحين أحمد صدقى، وفى فيلم (لحن الخلود) أيضا لبركات والأحداث فى (بلطيم ) وغنى فريد الأطرش لمديحة يسرى (يا مالكة القلب فى إيدك) وغنى لفاتن (جميل جمال/ مالوش مثال/ ولا فى الخيال).
وتعددت أفلام البحر على اختلاف مشاربها وأهدافها، مثلا (ابن حميدو) والباخرة التى أطلق عليها عبد الفتاح القصرى (نورماندى تو)، لم تستطع الصمود فى البحر وغرقت فى لحظات، الفيلم إخراج فطين عبد الوهاب، المخرج أراد فضح الاتجار فى المخدرات وتلك (الإفيهات) التى اشهرت ولا تزال (كلمتى مش ح تنزل الأرض أبدا) لعبد الفتاح القصرى (الريس حنفى) الأحداث قريبة من شاطئ مدينة السويس، وهى بالمناسبة مسقط رأس إسماعيل ياسين، البحر منح فطين عبد الوهاب مساحات للبهجة.
دعونا نتذكر أيضا لإسماعيل ياسين وفطين عبد الوهاب (إسماعيل ياسين فى الأسطول) والذى دخل فى إطار الأفلام التى قررت الدولة وقتها تقديمها فى أعقاب ثورة ٢٣ يوليو ٥٢، لحث الشباب على التطوع للقوات المسلحة، بدأت بـ(إسماعيل ياسين فى الجيش) وتعددت الأفلام التى تتناول الأسلحة المختلفة للقوات المسلحة، وكان لابد من السلاح البحرى وهكذا جاء (إسماعيل ياسين فى الأسطول) والبحر هنا البطل مع التوليفة المعتادة وتلك الثنائية التى تمثلت مع رياض القصبجى (الشاويش عطية). وسكنت فى ذاكرة الناس ولا تزال.
من أشهر الأفلام (البنات والصيف) لإحسان عبد القدوس، الأحداث كلها على البحر، وكل قصة كانت تسبح فنيا فى منطقة مغايرة، وهو الفيلم الذى يجتمع فيه ثلاثة من كبار المخرجين، كل منهم يقدم فيلما روائيا متوسط الطول، عز الدين ذو الفقار القصة الأولى بطولة مريم فخر الدين وكمال الشناوى وعادل خيرى وهى من الإطلالات القليلة جدا لعادل خيرى سينمائيا، والفكرة جريئة ضعف شخصية زوج ومحاولة هيمنة صديقه المقرب على زوجته، وهى على الجانب الآخر تسعى لكى تلفت نظره، للتدخل، بينما هو استسلم حتى يريح ويستريح لشاطئ الثقة المطلقة.
والقصة الثانية لصلاح أبو سيف، كانت المرشحة فى البداية هى سعاد حسنى، ولكن صلاح لم يكن مقتنعا بها وقال وقتها للمسؤول عن مؤسسة السينما إنه يرشح سميرة أحمد، يراها الأكثر ملاءمة، الفيلم جرىء فى عمقه الفكرى، موظف كبير يقترب من المعاش أدى دوره حسين رياض، وعندما يشاهد الخادمة سميرة أحمد ينجذب إليها ولا يستطيع أن يقاوم، فيقرر أن يلفق لها اتهاما حتى تغادر المنزل، والقصة الثالثة لفطين عبد الوهاب والبطولة لعبد الحليم وزيزى البدراوى وسعاد حسنى، بدأت ومضة الحب بين عبد الحليم حافظ وسعاد حسنى التى أدت دور شقيقته على الشاطئ، بينما حبيبته زيزى البدراوى.
فى تلك السنوات، كان الرهان الفنى على زيزى البدراوى أكبر من سعاد حسنى، ينظر إليها باعتبارها النجمة القادمة بعد فاتن حمامة، وعندما تعثرت خطواتها ولم تحقق النجومية التى توقعها أغلب الوسط السينمائى، كان التفسير المتداول، أنها قد رفضت دراميا حب عبد الحليم حافظ، فحطم المتفرج المسافة بين الواقع والخيال، وكره زيزى البدراوى وظلت تدفع الثمن، وكتب وقتها الكاتب الكبير أحمد حمروش ساخرا (من أنت حتى ترفضى حب عبد الحليم )، لا أتصور بالمناسبة أن تلك القراءة سليمة، كإجابة عن سؤال، لماذا لم تحقق زيزى البدراوى نفس نجاح سعاد حسنى ونادية لطفى؟ إجابتى هى أنه فارق الوهج، منح الله سعاد ونادية فيضا من السحر.
عبد الحليم عاد مرة أخرى للشاطئ وأيضا مع رواية إحسان عبد القدوس (أبى فوق الشجرة)، وشاركه البطولة نادية لطفى وميرفت أمين، العديد من الأغنيات بالفيلم كان الشاطئ فيها بطلا، يظل (قاضى البلاج) لمرسى جميل عزيز وتلحين منير مراد، واحدة من الأغنيات التى لا تنسى، طبعا فى تلك السنوات لم يكن هناك ما يحول دون أن يحصى الجمهور عدد القبلات التى منحها عبد الحليم لكل من نادية وميرفت ووصل الرقم إلى ٩٩.
أفلام مثل (فى الصيف لازم نحب) و(أجازة صيف) و(فرقة المرح ) و(معسكر البنات) وأتوقف كثيرا مع (أيس كريم فى جليم) للمخرج خيرى بشارة مع عمرو دياب وسيمون.
دعونا نتذكر فيلم (ريا وسكينة) الأحداث بالإسكندرية ولكن البطل ليس هو البحر، توارت أمواج البحر أمام أمواج الدماء لأشهر سفاحتين فى تاريخنا المعاصر (ريا وسكينة).
البحر فى الماضى كان الحلم المتاح للأسرة محدودة الحال، تستطيع ببساطة أن تشد الرحال إلى الإسكندرية أو مرسى مطروح أو بلطيم، الآن صار حتى فى السينما (حلما مستحيلا)!!